يدرك غالبية الناس التفاوض من خلال الفهم السياسي
للمعنى و الصورة التقليدية للفعل ... أي طاولة المفاوضات بصورتها الرسمية, غير أن التفاوض
في الواقع هو سلوكُ فطري و إلزامي بآنٍ واح.
نعيه كتحدٍ ضروري في خضم تعاملاتنا اليومية
بدءاً من النقاش العائلي داخل المنزل حول : مكان قضاء العطلة الصيفية، و التعامل مع
عرض عمل مهم، و حل خلاف مع زبون إلى مناقشة بنود الميزانية داخل شركة ما أو في أروقة
الحكومة. ضمن هذا الإطار, يبدو أنه من المناسب أن نقدم تعريفاً لِـلتفاوض على أنه:
" الوسيلة الأساسية للحصول على ما تريده من الآخرين. أي هو وسيلة اتصال جيئة وذهاباً
مخصصة للوصول إلى اتفاق عندما تكون لديك أنت والطرف الآخر بعض المصالح المشتركة وأخرى
متعارضة" , بمعنى آخر هو السعي لإقرار اتفاق متبادل من خلال الحوار. يتطلب هذا
الإدراك ,في الحقيقة, الكشف عن الأسس الجوهرية في عملية التفاوض الفعال, و هي: أولاً:
الاعتراف بأحقية "الكل أو الجزء" من مطالب الطرف الآخر إن التفاوض هو حالة
دائمة الحضور في حياتنا اليومية لأنها لا يمكن أن تمضي من دون اختلافات و نزاعات مع
الآخرين في جميع المجالات التي اسمها Michel Fustier الكرة
" la bulle " أي ( العائلة, الأصدقاء, الزملاء,
العلاقات التراتبية, مكان العمل, المال, الممتلكات, التجاريين و المصرفيين ) كما يشكل
التبادل الفكري و الأخلاق و منظومة القيم و الأفكار مصدراً للاختلاف أيضاً.
في الواقع,
تمثل منظومة العلاقات أمر محتوم و لا غنى عنه و هي تختلف بدورها يوماً بعد آخر و تحكمها
الثلاثية التالية: الاتفاق, الاختلاف, النزاع الذي ينشأ بدوره من الاختلاف في إدراك
الأحداث و تفسير منظومتها السببية و عدم الاتفاق على أولوية الأهداف و التباين في تعيِّن
الأدوات و المنهجية و التكتيك الواجب إتباعه لتطبيقها... و هنا, يصبح التفاوض هو الأسلوب
الوحيد المتاح أمام الأطراف التي لها علاقة بالقضية المتنازع عليها وتريد الوصول إلى
حل لها, غير أنه لا يمكن أن تكون هناك مفاوضات إلا إذا قبلنا و سلمنا بأحقية و شرعية
" الكل أو الجزء" من مطالب الطرف المقابل. و يتضح أن الموقف التفاوضي يقوم
على أسس عامة, هي: وجود
طرفين أو أكثر لديهم مصالح مشتركة و يعتقدون بإمكانية الاتصال و التفاعل في ما بينهم
لتحقيق نتائج نافعة لهم. وجود
قضية نزاعية أو أكثر بين الأطراف المتحاورة, فإذا لم توجد هذه المصلحة المشتركة و القضية
النزاعية لا يوجد ما يمكن التفاوض بشأنه. وجود
قوة تفاوضية لدى الطرفين و قد تكون متعادلة أو لا انطلاقاً من أن عملية التفاوض فعل
و رد فعل.
أخيراً, يتوقف مدى شعورنا بالرضا عن حياتنا و عن نجاحنا المهني على الطريقة
التي ننجح بها من فرض مصالحنا الخاصة دون أن نهمل النظر إلى مصالح شريكنا في الموقف
التفاوضي. هذا يعني الوصول إلى حس و إدراك التوازن الصحيح للمصالح. لذلك يتوجب إعطاء
وزن كبير ـ مستقبلاً ـ لأمرين اثنين على التوازي: القيام بمفاوضات أكثر وعياً و أكثر
تركيزاً نحو الهدف, و فهم أفضل للإدراك و الاعتبارات الشخصية اتجاه المواقف. ثانياُ:
معرفة البديل الأفضل عن التفاوض (BATNA) إن البديل الأفضل هو أفضل
مسار لاتخاذ شخص قرار ما في غياب اتفاق ما. لقد طور هذا المفهوم من قبل روجر فيشر و
ويليام أوري و اشتق من الأحرف الأولى لمجموعة كلمات باللغة الانكليزية: Alternative to a Negotiated Agreement Best و تعني
بالعربية: أفضل بديل لاتفاق تفاوضي, و معرفتك لهذا البديل يعني معرفتك بما ستقدم عليه
أو ماذا يمكن أن يحدث في حال فشلك في التوصل إلى اتفاق في المفاوضات الجارية. يجب معرفة
البديل الأفضل عوضاً عن التفاوض و مدى قوته قبل الدخول في أية مفاوضات. و إلا, فإنه
لا يمكننا معرفة ما إذا كان الاتفاق سيكون مرضياً أو أن الأفضل هو ترك طاولة التفاوض,
فهو الذي يحسم إذاّ أمر النقطة التي يمكن عندها أن نقول لا لأي اقتراح لا يلقى القبول.
و عندما يكون هذا البديل قوياً, يصبح التفاوض من أجل الحصول على شروط أفضل ممكناً لأنه
يوجد شيء آخر محبذ أكثر. بينما يضع البديل الضعيف المفاوض في موقع مساوم ضعيف.
في هذه
الحالة و عندما لا يكون هناك خيار سوى الدخول في المفاوضات, يجب العمل على تقوية المركز
التفاوض من خلال معرفة البديل الأفضل لدى الطرف الآخر و إضعافه, هذا يعني زيادة القوة
التفاوضية أمام الآخر. ثالثاً: اتخاذ القرار التفاوضي رابح – رابح ( Win – Win) ثمة نوعان رئيسيان من
التفاوض: التفاوض التوزيعي و التفاوض التكاملي, فالأول هو تفاوض يتنافس فيه الفرقاء
على توزيع مجموع ثابت للقيمة بحيث يكون مكسب أحد الأطراف على حساب الأطراف الأخرى
(Win – Lose), و تعتبر المفاوضات على الأجور بين أرباب العمل المثال
التقليدي لهذا النوع من المفاوضات إذ أن أي قدر يتم التنازل عنه سيخرج من جيوبهم الخاصة,
و العكس بالعكس. إن عادة أغلب المفاوضين هو زرع الخوف لدى الطرف المقابل ملوحين بأنهم
جاهزين للخوض في هذا النوع من المفاوضات " الحصول على حصة الأسد و سحق الآخر".
إن هذه البداية لا تنبئ بنهاية جيدة, و سيتبين لاحقاً أن هذا النمط التوزيعي لن يذهب
بعيداً. بالمقابل, تقدم المفاوضات من النوع التكاملي الفرص للتعاون و إبداع الحلول
و تقاسم المنافع بناءاً على موقعها في سلم الأولوية و الأهمية لدى كلا الفريقين التفاوضيين,
كما تسمح مبادلات القيمة هذه من بناء العلاقات المستدامة بينهما بطريقة تعود بالنفع
- مستقبلاُ – على الطرفين معاً, بالإضافة إلى خلق التصور الإيجابي و تعميق الثقة مما
يهيأ المناخ لإجراء مفاوضات تعاونية تتم فيه تقديم التنازلات و عقد الصفقات بيُّسُر
بينهما. بمعنى آخر, تعتبر بناء العلاقات المتينة بين الفريقين التفاوضيين ( على سبيل
المثال: شركة مشتري و أخرى موردة ) قيمة مضافة إلى ثمرة أية مفاوضات جارية بينهما.
لذلك يبدو أنه من الأجدى أن يتخذ المفاوض قرار التفاوض التكاملي ( Win – Win) بالعمل على توسيع الخيارات
و إيجاد أكبر قيمة بالقدر المستطاع له و للجانب الآخر من خلال تبادل المعلومات و الكشف
عن الأهداف الحقيقة و البحث عن المصالح المشتركة, فمن الضروري أن يقتنع المفاوض بأنه
يصب في مصلحته أن يفتش عن طرق يسدي فيها النفع إلى نظيره الذي يتفاوض معه من أجل الحصول
على شطر لا بأس به من الكعكة لنفسه. رابعاً: المفاتيح الخمس لمفاوض ناجح تمثل هذه المفاتيح
الأدوات المنهجية الأساسية التي تمكن المفاوض من إدارة عملية التفاوض بأسلوب موضوعي
فعال, و هي: تحديد
الأهداف و الرهانات تتم مرحلة تحديد الأهداف بالتعاون مع أعضاء الشركة أو المؤسسة الذي
لن يشاركوا في عملية المفاوضات. يجب أن تسمح هذه الخطوة من تحديد أهداف واضحة و واقعية
ضمن إطار توقع هامش تحرك و مناورة بين حد أعلى و حد أدنى و عتبة لا يجوز عبورها و تجاوزها.
و لابد من الإشارة إلى ضرورة استمرار فريق التحضير في متابعة عمله خلال المراحل المختلفة
لسير المفاوضات حيث يشكل جبهة دعم داخلية. الدراية
الجيدة بالطرف المقابل (الخصم) تلعب المعلومات دوراً محدداً في نجاح المفاوضات, يجب
البحث عن معرفة الطرف الخصم, هذا يعني: الفاعلين الذين سيحضرون على طاولة المفاوضات,
مثلاً: ما هي أهدافهم؟ ما هي رهاناتهم؟ ما هي أوراق قوتهم,... و من أجل الإجابة على
هذه الأسئلة يبدو أنه من الضروري وضع النفس في مكان الخصم فالمفاوضات تستدعي أحيانا
عوامل إنسانية قد تكون ذات بعد محدد. الإلمام
الكامل بالمضمون و التفاصيل يجب على المفاوضين معرفة خبايا القضية بشكل كامل. كما يتوجب
خلال مرحلة التحضير أيضاً تحديد السياق العام و تقدير النتائج. فمثلاً إن المفاوضات
التي تجري في حالة الحرب تعطي الأهمية و القيمة لعامل الوقت.
بالمقابل, يجب أن لا يرجح
المضمون على باقي التفاصيل الأخرى التي لا يجب أن تسقط قيمتها في نجاح المفاوضات لصالح
التركيز في ملف القضية فمثلاً تمثل بيئة المفاوضات عامل مهم جداً. تنويع
الاستراتيجيات من أجل توجيه المفاوضات يجب أن تكون جاهزاً و مهيأً للتخفيف من مطالبك
و أن تكون متساهلا لحدٍ ما. بالتالي, إن النوعيين الأساسيين للتفاوض هما بالتالي ممكنان:
المفاوضات التكاملية (التعاونية) و المفاوضات التوزيعية (النزاعية). إن الخيار بين
إحداهما يتعلق بالنتيجة المطلوبة ( الحصول على كل المزايا المطلوبة, الوصول إلى مزايا
مشتركة, الوصول إلى تسوية بالتراضي في حال تمسك طرف بمعظم مطالبه) كما تتعلق أيضاً
بطبيعة علاقات القوة التي تجمعهما.
التنبؤ
بمسار المفاوضات و التحضير لردود الفعل يجب أن يمتلك المفاوض حزمة كبيرة من الحجج و
المقترحات ليكون قادراً على مواجهة جميع المواقف المتوقعة من قبل الخصم. في جميع الأحوال,
يجب على المفاوض أن يكون قادراً على التحكم بجميع أدواته التفاوضية و أن يحضر جيداً
لكيفية استخدام حل التراجع كطريقة للخروج من حالة الصدام, مثلاً من الممكن أن يطلب
قطع المفاوضات إذا أخذت منحاً سيئاً و غير مرضياً. أخيراُ, يقوم التفاوض الفعال على
تحقيق الأهداف الرئيسية للمفاوض و المحاور معاً في إطار من المساومة العقلانية و تبادل
المنافع الأمر الذي يوطد الثقة و يحافظ العلاقات على علاقات متينة بينهما, و ترتبط
جميع هذه المتغيرات بمفهوم "المفاوض الجيد" الذي يمكن التعبير عنه بأنه:
"المفاوض المخطط الذي يمتلك معاً الذكاء و البصيرة و القدرة على ابتكار الحلول
المرضية له و للطرف الآخر".
بقلم: د. سلام سفاف
المصدر:
http://www.ipra-ar.org/alpha/topic/view.php?id=28